فصل: باب الإكراه على الوديعة وغيرها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.باب الإكراه على الوديعة وغيرها:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَلَوْ أَنَّ لِصًّا أَكْرَهَ رَجُلًا بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يُودِعَ مَالَهُ هَذَا الرَّجُلَ، فَأَوْدَعَهُ، فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُسْتَوْدَعِ، وَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ لَمْ يَضْمَنْ الْمُسْتَوْدَعُ، وَلَا الْمُكْرَهُ شَيْئًا أَمَّا الْمُكْرَهُ، فَلِأَنَّ التَّهْدِيدَ بِالْحَبْسِ لَا يَجْعَلُ الدَّفْعَ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُسْتَوْدَعُ، فَلِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ بِتَسْلِيمِ صَاحِبِهِ إلَيْهِ لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِعْلَ التَّسْلِيمِ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَالِكِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُلْجَأً إلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ، فَهُوَ كَمَنْ أَوْدَعَ مَالَهُ غَيْرَهُ عِنْدَ خَوْفِهِ مِنْ اللُّصُوصِ، أَوْ عِنْدَ وُقُوعِ الْحَرِيقِ فِي دَارِهِ، وَهُنَاكَ لَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُسْتَوْدَعَ، وَإِنْ شَاءَ الْمُكْرِهَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي التَّسْلِيمِ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ لِلْإِلْجَاءِ فَكَأَنَّ الْمُكْرِهُ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الدَّفْعَ إلَيْهِ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَانِيًا فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ، وَأَيُّهُمَا ضَمَّنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ إنْ ضَمِنَ، فَإِنَّمَا يَضْمَنُ بِكَوْنِ الدَّفْعِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَدِيعَةً لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُودَعِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُودَعَ؛ فَلِأَنَّهُ كَانَ فِي الْقَبْضِ طَائِعًا، وَبِهِ صَارَ ضَامِنًا، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْقَبْضِ عَامِلًا لِلْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ لِيُسَلِّمَهُ إلَى الْمُكْرَهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ بِتَلَفٍ أَوْ حَبْسٍ عَلَى أَنْ يَأْمُرَ رَجُلًا بِقَبْضِ الْمَالِ، فَأَمَرَ بِقَبْضِهِ، وَالْمَأْمُورُ غَيْرُ مُكْرَهٍ، فَضَاعَ فِي يَدِهِ، فَالْقَابِضُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَوْلٌ مِنْهُ، وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ يُبْطِلُ قَوْلَهُ فِي مِثْلِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَبْطُلُ شِرَاؤُهُ، وَبَيْعُهُ، فَكَانَ كَالْقَابِضِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ صَاحِبُ الْمَالِ هُوَ الدَّافِعُ، وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ لَا يُعْدِمُ فِعْلَهُ فِي الدَّفْعِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ مَالَهُ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ، فَفَعَلَ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يَأْمُرَ إنْسَانًا بِأَنْ يَطْرَحَ مَالَهُ فِي مَاءٍ، أَوْ نَارٍ، فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَفَعَلَهُ الْمَأْمُورُ كَانَ الْمُكْرَهُ ضَامِنًا، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الطَّارِحُ مُكْرَهًا مِنْ جِهَتِهِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ فَيَهَبَهُ، أَوْ يَأْكُلَهُ، أَوْ يَسْتَهْلِكَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ كَانَ الْمُسْتَهْلِكُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالتَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ لَغْوٌ، فَكَأَنَّهُ، فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ عَمْدًا، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَتَلَهُ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتُلَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِإِذْنِهِ بَعْدَ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ كَانَ بَاطِلًا، فَإِنَّ التَّهْدِيدَ بِالْحَبْسِ يُسْقِطُ اعْتِبَارَ مَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ مِنْ أَقَاوِيلِهِ، وَالْإِذْنُ إنَّمَا كَانَ مُؤَثِّرًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا، وَمَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ الْإِذْنُ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فِي هَذَا، فَقَالَ لَا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، وَلَكِنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ يُؤَثِّرُ فِي إبْطَالِ بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ دُونَ الْبَعْضِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي إبْطَالِ قَوْلِهِ فِي الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَيُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، فَإِنْ اعْتَبَرْنَاهُ بِمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَاهُ بِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَالْقِصَاصُ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلِهَذَا سَقَطَ الْقَوَدُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِي الْإِكْرَاهِ بِوَعِيدِ التَّلَفِ مَوْجُودٌ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ، فَالْإِكْرَاهُ بِوَعِيدِ التَّلَفِ مُؤَثِّرٌ فِي جَمِيعِ الْأَقَاوِيلِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهَا مِنْ الْإِتْلَافِ حَتَّى يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، ثُمَّ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ كَالْعَفْوِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَالْعَفْوُ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ صَحِيحٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى الْعَافِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ، فَالْعَفْوُ هُنَاكَ صَحِيحٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَا يَتْلَفُ بِهِ مِمَّا هُوَ مُتَقَوِّمٌ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، فَكَذَلِكَ الْإِذْنُ فِي الِابْتِدَاءِ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ قُلْنَا: يُجْعَلُ مُعْتَبَرًا فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ الَّذِي يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَا يُجْعَلُ مُعْتَبَرًا فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ الَّذِي يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِالْقَتْلِ غَيْرَ الْمُكْرَهِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، أَوْ حَبْسٍ عَلَى أَنْ يُوَكَّلَ بِبَيْعٍ، أَوْ شِرَاءٍ، فَفَعَلَ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ قَوْلٌ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ لِيَتَحَقَّقَ بِهِ الرِّضَا مِنْ الْمُوَكِّلِ بِتَصَرُّفِ الْوَكِيلِ عَلَى سَبِيلِ النِّيَابَةِ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ إذَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَى التَّوْكِيلِ، ثُمَّ الْإِكْرَاهُ بِالْقَتْلِ، وَالْحَبْسِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يُوَكِّلَ هَذَا بِعِتْقِ عَبْدِهِ، فَأَعْتَقَهُ الْوَكِيلُ، وَالْوَكِيلُ غَيْرُ مُكْرَهٍ كَانَ الْعَبْدُ حُرًّا عَنْ مَوْلَاهُ، وَلَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ لَا يَجْعَلُ الْفِعْلَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ فِي مَعْنَى الْإِتْلَافِ، وَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيطِ عَلَى الْإِعْتَاقِ، وَالتَّوْكِيلُ فِي الِابْتِدَاءِ كَالْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ.
وَلَوْ أَنَّ أَجْنَبِيًّا أَعْتَقَ عَبْدَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَأُكْرِهَ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يُجِيزَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهُ دُونَ الَّذِي وَلِيَ الْعِتْقَ أَمَّا نُفُوذُ الْعِتْقِ؛ فَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ، وَأَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ، فَلِأَنَّ الْإِتْلَافَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِلْجَاءِ، وَحُصُولُ التَّلَفِ بِالْأَمْرِ الصَّادِرِ مِنْ الْمَوْلَى عِنْدَ إعْتَاقِ الْمَأْمُورِ لَا بِإِعْتَاقِ الْمَأْمُورِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ الْأَمْرُ كَانَ إعْتَاقُهُ لَغْوًا، وَبِهِ فَارَقَ الْقَتْلَ، وَالْقَطْعَ، فَالْإِتْلَافُ هُنَاكَ يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ دُونَ الْآمِرِ بِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْهُ أَمْرٌ فَإِذَا كَانَ الْمُبَاشِرُ طَائِعًا كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ أَمَرَ رَجُلًا بِأَنْ يَقْتُلَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَقَتَلَهُ كَانَ الْقَاتِلُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ حَتَّى يَحْبِسَهُ بِالثَّمَنِ، وَلَوْ أَمَرَ رَجُلًا، فَأَعْتَقَهُ كَانَ الْعَبْدُ حُرًّا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ بِدُونِ أَمْرِ الْمُشْتَرِي لَغْوٌ، فَيَكُونُ إعْتَاقُ الْمَأْمُورِ كَإِعْتَاقِ الْمُشْتَرِي، وَالْقَتْلُ بِدُونِ أَمْر الْمُشْتَرِي يَتَحَقَّقُ، فَيَكُونُ مُوجِبَ الضَّمَانِ عَلَى الْقَاتِلِ وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي عِتْقِهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ، فَأَعْتَقَهُ عَتَقَ، وَالْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى، وَيَضْمَنُ الْمُكْرِهُ قِيمَتَهُ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَلْجَأَهُ إلَى الْأَمْرِ بِالْعِتْقِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ بِحَبْسٍ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ شَيْئًا، فَهَذَا يُبَيِّنُ لَك مَا سَبَقَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْعِتْقِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، وَكُلُّ إكْرَاهٍ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى الْأَمْرِ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ نَحْوُ الْعِتْقِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْقَتْلِ، وَاسْتِهْلَاكِ الْمَالِ فَإِكْرَاهُهُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ فِي حُكْمِ الْإِتْلَافِ صَارَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَيْدٍ، أَوْ حَبْسٍ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ، وَإِنَّمَا الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ فِي الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ وَالْإِقْرَارِ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَالْوَكَالَةُ بِذَلِكَ، وَالْأَمْرُ بِهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذَا كُلِّهِ تَعْتَمِدُ الرِّضَا، وَمَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا، ثُمَّ، أَوْضَحَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفِعْلِ، وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِهِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ بِفِعْلِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَوْ غَصَبَ مَالًا، فَدَفَعَهُ إلَى عَبْدٍ آخَرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ كَانَ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يُضَمِّنَ الثَّانِي، ثُمَّ يَرْجِعَ مَوْلَاهُ بِمَا ضَمِنَ فِي رَقَبَةِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ لَمْ يَدْفَعْهُ، وَلَكِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَمْ يَكُنْ لِمُولَى الْآخَرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْأَوَّلَ.

.بابُ التَّلْجِئَةِ:

(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ أَمْرِهِ، وَلَمْ يُسْقِطْ اعْتِبَارَ دَفْعِهِ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ يُسْقِطُ اعْتِبَارَ أَمْرِهِ، وَلَا يُسْقِطُ اعْتِبَارَ دَفْعِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلٍ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُلْجِئَ إلَيْكَ عَبْدِي هَذَا فَأَبِيعُكَهُ تَلْجِئَةً، وَبَاطِلًا، وَلَيْسَ بِشِرَاءٍ، وَاجِبٍ لِشَيْءِ أَخَافُهُ، فَقَالَ: نَعَمْ وَحَضَرَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ شُهُودٌ، ثُمَّ قَالَ لَهُ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ قَدْ بِعْتُكَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ قَدْ فَعَلْت، ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى مَا كَانَ بَيْنَهُمَا، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ التَّلْجِئَةَ بِمَنْزِلَةِ الْهَزْلِ، وَالْهَزْلُ أَنْ يُرَادَ بِالْكَلَامِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ وَالْهَازِلُ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْحُكْمِ، وَلَا رَاضِيًا بِهِ، وَيَكُونُ مُخْتَارًا لِلسَّبَبِ لِغَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ السَّبَبُ، فَالْمُلْجِئُ أَيْضًا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلسَّبَبِ لِغَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ السَّبَبُ، وَلَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْحُكْمِ، وَلَا رَاضِيًا بِهِ.
فَلَا يَمْنَعُ الْهَزْلُ، وَالتَّلْجِئَةُ انْعِقَادَ السَّبَبِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ لِمَا لَمْ يَنْعَدِمْ هَذَا الْوَصْفُ، وَهُوَ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُمَا أَبَدًا يَكُونُ مُنْعَقِدًا، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ مَعَ بَقَاءِ الْخِيَارِ لَهُمَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ: إنْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُمَا بَنَيَا عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا يَعْزِلَانِهِ، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُمَا أَعْرَضَا عَنْ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ فَالْبَيْعُ لَازِمٌ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُمَا قَصَدَا الْجِدَّ وَهَذَا نَاسِخٌ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُوَاضَعَةِ، وَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ بَعْدَ الْعَقْدِ يَكُونُ فَاسِخًا لِلْعَقْدِ بَعْدَ الْمُوَاضَعَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهَا، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا نِيَّةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَفِي ظَاهِرِ الْجَوَابِ الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ: وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ مُطْلَقَ فِعْلِ الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَمَا يَحِلُّ شَرْعًا، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَجِبُ- حَمْلُ كَلَامِهِمَا عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ كَلَامِهِمَا مَعَ إمْكَانِ تَصْحِيحِهِ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمَا مَا تَوَاضَعَا إلَّا لِيَبْنِيَا عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ، فَيَكُونُ فِعْلُهُمَا بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمَا خِلَافُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُجْعَلْ بِنَاءً كَانَ اسْتِعْمَالُهُمَا بِتِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ اسْتِعْمَالًا بِمَا لَا يُفِيدُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةَ تَعَارَضَ الْأَمْرَانِ فِي الْإِطْلَاقِ، فَيُرَجَّحُ السَّابِقُ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْمُوَاضَعَةُ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جُعِلَ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: بَنَيْنَا عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَعْرَضْنَا عَنْهَا، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْبِنَاءَ عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْخُصُومَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ وَإِنَّمَا يَشْهَدُ الظَّاهِرُ لِمَنْ يَدَّعِي الْبِنَاءَ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ: يُوَضِّحُهُ أَنَّا نَجْعَلُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ قَصَدَ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَلَكِنْ بِإِعْرَاضِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْمُوَاضَعَةِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فِيمَا بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ بَنَيَا عَلَى الْمُوَاضَعَةِ، ثُمَّ أَجَازَ الْعَقْدَ أَحَدُهُمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: عِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي اللُّزُومَ فَدَعْوَى الْبِنَاءِ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْمُوَاضَعَةِ كَدَعْوَاهُ شَرْطَ الْخِيَارِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةَ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً بَيْنَهُمَا، فَيَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِبْطَالِهَا بِطَرِيقِ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَإِذَا بَطَلَتْ الْمُوَاضَعَةُ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا، ثُمَّ اخْتِلَافُهُمَا فِي بِنَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِي أَصْلِ الْمُوَاضَعَةِ، وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْمُوَاضَعَةَ السَّابِقَةَ، وَجَحَدَ الْآخَرُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا بَيْنَهُمَا حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ لِلْآخَرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْبِنَاءِ عَلَيْهَا، وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا قَدْ أَجَزْت الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ مِنْهُمَا، فَالْمُجِيزُ يَكُونُ مُسْقِطًا لِخِيَارِهِ، وَلَكِنَّ خِيَارَ الْآخَرِ يَكْفِي فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الْعَقْدِ، فَإِنْ قَالَ صَاحِبُهُ: قَدْ أَجَزْتُ أَنَا أَيْضًا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا أَسْقَطَا خِيَارَهُمَا، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ هَزْلًا مِنْهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ مُفِيدًا حُكْمُهُ لِانْعِدَامِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُمَا لِلْحُكْمِ، وَقَدْ اخْتَارَا ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزَاهُ حَتَّى قَبَضَ الْمُشْتَرِي، فَأَعْتَقَهُ كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا شَرَطَا الْخِيَارَ لَهُمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ- وَهُوَ الْمِلْكُ- غَيْرُ ثَابِتٍ لِعَدَمِ اخْتِيَارِهِمَا لِلْحُكْمِ بِالْقَصْدِ إلَى الْهَزْلِ، فَتَوَقَّفَ الْحُكْمُ عَلَى اخْتِبَارِهِمَا لَهُ، وَقَبْلَ الِاخْتِيَارِ لَا مِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ فَالْمُكْرَهُ مُخْتَارٌ لِلْحُكْمِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْجِدِّ مِنْ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا أُكْرِهَ عَلَى الْجِدِّ، فَأَجَابَ إلَى ذَلِكَ، فَلِهَذَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ حَتَّى لَوْ كَانَ أُكْرِهَ عَلَى بَيْعِهِ تَلْجِئَةً، فَبَاعَهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِيهِ أَيْضًا.
وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُك تَزَوُّجًا هَزْلًا، فَقَالَتْ نَعَمْ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْوَلِيُّ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «ثَلَاثَةٌ جِدّهنَّ جِدٌّ، وَهَزْلهنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ»، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا تَمْتَنِعُ صِحَّتُهُ بَعْدَ اخْتِيَارِ السَّبَبِ لِعَدَمِ اخْتِيَارِ الْحُكْمِ كَمَا لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِيهِ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، وَبِهَذَا الْفَصْلِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ بَيْعَ الْهَازِلِ مُنْعَقِدٌ تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ بِالْهَزْلِ لَوْ كَانَ يَنْعَدِمُ اخْتِيَارُ أَصْلِ السَّبَبِ لَمَا صَحَّ النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ مِنْ الْهَازِلِ، وَأَصْلُ السَّبَبِ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ عَلَى وَجْهِ الْهَزْلِ، أَوْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ عَلَى مَالِ عَلَى وَجْهِ الْهَزْلِ، وَقَدْ تَوَاضَعَا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ هَزْلٌ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ وَوَجَبَ الْمَالُ، وَهَذَا عِنْدَنَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَيَتَوَقَّفُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ عَلَى وُجُودِ الْإِجَازَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَالْعَبْدِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْهَزْلَ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخِيَارِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ، وَالْعَبْدِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَوُجُوبُ الْمَالِ قَبْلَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي جَانِبِهِمَا مَالٌ، فَيُعْتَبَرُ بِالْعَقْدِ الَّذِي هُوَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ وَعِنْدَهُمَا شَرْطُ الْخِيَارِ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، أَوْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ فَأَمَّا الْمَالُ، فَتَبَعٌ فِيهِ، وَثُبُوتُ التَّبَعِ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ، فَكَذَلِكَ الْهَزْلُ، وَالْإِجَارَةُ، وَالْقِسْمَةُ، وَالْكِتَابَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِي حُكْمِ التَّلْجِئَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ مُحْتَمِلَةٌ لِلنَّقْضِ بَعْدَ وُقُوعِهَا كَالْبَيْعِ.
وَلَوْ تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُجِيزَا أَنَّهُمَا تَبَايَعَا هَذَا الْعَبْدِ أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ثُمَّ قَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: قَدْ كُنْت بِعْتُك عَبْدِي يَوْمَ كَذَا بِكَذَا وَقَالَ الْآخَرُ: صَدَقْت، فَلَيْسَ هَذَا بِبَيْعٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذَا كَانَ بَاطِلًا، فَبِالْإِخْبَارِ بِهِ لَا يَصِيرُ حَقًّا، وَلَوْ أَجْمَعَا عَلَى إجَازَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْعًا؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْعَقْدَ الْمُنْعَقِدَ، وَبِالْإِقْرَارِ كَاذِبًا لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، فَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُمَا لَوْ صَنَعَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي طَلَاقٍ، أَوْ عَتَاقٍ، أَوْ نِكَاحٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا، وَلَا عَتَاقًا، وَلَا نِكَاحًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ الْمُوَاضَعَةِ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، وَلَا عَتَاقًا، وَلَا نِكَاحًا فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي لَا يُصَدِّقُهُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى أَنَّهُ كَذِبَ إذَا أَقَرَّ طَائِعًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ، وَالْإِنْشَاءِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، فَكَذَلِكَ مَعَ التَّلْجِئَةِ، وَلَوْ كَانَ قَبْضُ الْعَبْدِ الَّذِي قَالَ فِيهِ مَا قَالَ فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا كَانَا قَالَا فِي السِّرِّ مِنْ الْمُوَاضَعَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بَطَلَ الْعِتْقُ، وَرُدَّ الْعَبْدُ عَلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ إقْرَارَهُمَا كَانَ كَذِبًا، وَأَنَّ إعْتَاقَهُ حَصَلَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَكَانَ لَغْوًا.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَةٍ، وَوَلِيِّهَا، أَوْ قَالَ لِوَلِيِّهَا دُونَهَا: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ فُلَانَةَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَتُسَمِّي أَلْفَيْنِ، وَالْمَهْرُ أَلْفٌ، فَقَالَ الْوَلِيُّ: نَعَمْ أَفْعَلُ، فَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفَيْنِ عَلَانِيَةً كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا، وَالصَّدَاقُ أَلْفُ دِرْهَمٍ إذَا تَصَادَقَا عَلَى مَا قَالَا فِي السِّرِّ، أَوْ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا الْهَزْلَ بِذِكْرِ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ، وَالْمَالُ مَعَ الْهَزْلِ لَا يَجِبُ وَصَارَ ذِكْرُ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْهَزْلِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ فِي النِّكَاحِ لَا يُؤَثِّرُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، وَلَا فِي الصَّدَاقِ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَالِ، وَالْعَتَاقِ عَلَيْهِ قَالَ فِي الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ، وَهَذَا الْجَوَابُ فِي الْبَيْعِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَمَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إذَا تَصَادَقَا عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي قُصِدَ الْهَزْلُ بِهَا يَكُونُ ذِكْرُهَا شَرْطًا فَاسِدًا، وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَا قُصِدَ الْهَزْلُ بِهِ فَذِكْرُهُ، وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءٌ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ بِدُونِ ذِكْرِهِ، وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ كَانَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِأَلْفَيْنِ، وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا نِيَّةٌ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِأَلْفَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُوَاضَعَةِ عَلَى أَصْلِ الْبَيْعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ إلَّا بِجَمِيعِ الْمُسَمَّى فِيهِ، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَجِبُ الْمُضِيُّ إلَى تَصْحِيحِ الْعَقْدِ وَعِنْدَهُمَا الْبَيْعُ مِنْهُمَا بِأَلْفٍ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْبِنَاءِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِأَلْفَيْنِ وَعِنْدَهُمَا عَلَى قِيَاسِ الْمُوَاضَعَةِ فِي أَصْلِ الْبَيْعِ.
وَلَوْ قَالَ: الْمَهْرُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَلَكِنَّا نُسْمِعُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأَشْهَدُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الظَّاهِرِ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا الْهَزْلَ بِمَا سَمَّيَاهُ فِي الْعَقْدِ وَمَعَ الْهَزْلِ لَا يَجِبُ الْمَالُ، وَمَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَذْكُرُ أَنَّهُ فِي الْعَقْدِ، وَالْمُسَمَّى لَا يَثْبُتُ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ، فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَهُنَاكَ قَدْ سَمَّيَا فِي الْعَقْدِ مَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يَكُونَ مَهْرًا، وَزِيَادَةً؛ لِأَنَّ فِي تَسْمِيَةِ الْأَلْفَيْنِ تَسْمِيَةُ الْأَلْفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَا فِي السِّرِّ: عَلَى أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، وَتَزَوَّجَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ، وَلَمْ يُسِمَّ لَهَا مَهْرًا، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ قَالَا عِنْدَ الْعَقْدِ عَقَدْنَا عَلَى مَا تَرَاضَيْنَا بِهِ مِنْ الْمَهْرِ، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ بِمَنْزِلَةِ التَّسْمِيَةِ مِنْهُمَا لِمَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يَسْمَعُوا مَا سَمَّيَا مِنْ مِقْدَارِ الْمَهْرِ، وَلَكِنْ سَمَاعُ الشُّهُودِ التَّسْمِيَةَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّتِهَا وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الْبَيْعِ، فَقَالُوا الْبَيْعُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ إلَّا أَنَّا نُظْهِرُ بَيْعًا بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَمَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ بَاطِلٌ.
وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ الْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا الْهَزْلَ بِمَا سَمَّيَا، وَلَمْ يَذْكُرَا فِي الْعَقْدِ مَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا بَيْنَهُمَا، فَبَقِيَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ، وَهُمَا قَصَدَا الْجِدَّ فِي أَصْلِ الْبَيْعِ هُنَا، فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِهِ وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ إلَّا أَنْ يُعْقَدَ الْمُسَمَّى فِيهِ مِنْ الْبَدَلِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، فَهُنَاكَ أَعْمَالُ الْهَزْلِ فِي الْمُسَمَّى مَعَ تَصْحِيحِ أَصْلِ الْعَقْدِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ: يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْمُعَاقَدَةَ بَعْدَ الْمُعَاقَدَةِ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ مُبْطِلًا الْأَوَّلَ بِالثَّانِي، فَإِنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا بِمِائَةِ دِينَارٍ ثُمَّ تَبَايَعَا بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَ الْبَيْعُ الثَّانِي مُبْطِلًا لِلْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَعْدَ الْمُوَاضَعَةِ بِخِلَافِ جِنْسِ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْمُوَاضَعَةِ، وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَالْعَقْدُ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ مُبْطِلًا، فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، ثُمَّ جَدَّدَ الْعَقْدَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ لَمْ يَصِحَّ الثَّانِي.
فَكَذَلِكَ تَسْمِيَةُ الدَّرَاهِمِ فِي الْعَقْدِ بَعْدَ مَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ دَنَانِيرَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الدَّرَاهِمِ، فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَكُلُّ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ كَالْقِسْمَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْكِتَابَةُ فِي ذَلِكَ قِيَاسُ الْبَيْعِ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْخُلْعِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ بِجُعَلٍ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَا يَجِبُ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ، فَلَوْ أَعْمَلْنَا الْهَزْلَ فِي الْمُسَمَّى لَوَقَعَ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ بِغَيْرِ جُعْلٍ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا الرِّضَا بِذَلِكَ، فَلِهَذَا صَحَّحْنَا ذَلِكَ بِالْمُسَمَّى فِيهِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَهُنَاكَ، وَإِنْ جَعَلْنَا مَا سَمَّيَا فِي الْعَقْدِ هَزْلًا انْعَقَدَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا مُوَاضَعَةً بِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا الْمُوَاضَعَةَ فِي الْمَنْعِ مِنْ وُجُوبِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي الطَّلَاقِ بِجُعْلٍ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ أَصْلِ الطَّلَاقِ لِقَصْدِهِمَا الْجِدَّ فِيهِ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ مَا سَمَّيْنَا مِنْ الْبَدَلِ فِيهِ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ مَعَ وُجُودِ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ، فَلِهَذَا، أَوْجَبْنَا الْمَالَ عَلَيْهَا، وَجَعَلْنَا الطَّلَاقَ ثَابِتًا.
، وَلَوْ كَانُوا عَقَدُوا الْبَيْعَ، أَوْ الطَّلَاقَ، أَوْ الْعَتَاقَ أَوْ النِّكَاحَ، أَوْ الْإِجَارَةَ عَلَى مَا كَانُوا تَوَاضَعُوا عَلَيْهِ فِي السِّرِّ ثُمَّ أَظْهَرُوا شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، وَادَّعَى أَحَدُهُمْ السِّرَّ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، وَادَّعَى الْآخَرُ الْعَلَانِيَةَ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةَ أُخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ، وَأُبْطِلَ السِّرُّ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْعَلَانِيَةِ دَافِعَةٌ لِدَعْوَى مُدَّعِي السِّرَّ، فَإِنَّهَا تَثْبُتُ إقْدَامُهُ فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى مَا شَهِدَتْ بِهِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْهُ دَعْوَى شَيْءٍ آخَرَ بِخِلَافِهِ فِي السِّرِّ، أَوْ يُجْعَلُ هَذَا الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي السِّرِّ إنَّا نَشْهَدُ بِذَلِكَ فِي الْعَلَانِيَةِ بِسَمْعِهِ، فَإِنْ شَهِدُوا بِذَلِكَ عَلَى الْوَلِيِّ الَّذِي زَوَّجَ، أَوْ عَلَى الْمَرْأَةِ أَوْ عَلَى الَّذِي وَلِيَ مَا ادَّعَى مِنْ الْعَلَانِيَةِ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ أَصْحَابِ السِّرِّ، وَأُبْطِلَتْ الْعَلَانِيَةُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْعَلَانِيَةِ، أَوْ بِاتِّفَاقِ الْخُصُومِ، وَبِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ ثَبَتَ أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي الْعَلَانِيَةِ كَانَ تَحْقِيقًا لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا فِي السِّرِّ لَا، فَسْخًا لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَذُكِرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إذَا كَانَ مَهْرُ سِرٍّ، وَمَهْرُ عَلَانِيَةٍ أَخَذْنَا بِالْعَلَانِيَةِ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَعْلَمَ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْمَهْرَ هُوَ الَّذِي فِي السِّرِّ، وَبِهَذَا نَأْخُذُ.
وَلَوْ قَالَ فِي السِّرِّ إنَّا نُرِيدُ أَنْ نُظْهِرَ بَيْعًا عَلَانِيَةً، وَهُوَ بَيْعُ تَلْجِئَةٍ وَبَاطِلٌ، ثُمَّ إنْ أَحَدُهُمَا قَالَ عَلَانِيَةً وَصَاحِبُهُ حَاضِرٌ: إنَّا قَدْ قُلْنَا كَذَا، وَكَذَا فِي السِّرِّ، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَجْعَلَهُ بَيْعًا صَحِيحًا، وَصَاحِبُهُ يَسْمَعُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ تَبَايَعَا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةَ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً بَيْنَهُمَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِإِبْطَالِهَا، ثُمَّ إقْدَامُ الْآخَرُ عَلَى الْعَقْدِ مَعَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَ مِنْهُ إبْطَالَ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ يَكُونُ رِضًا مِنْهُ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ، فَإِنَّمَا تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِتَرَاضِيهِمَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الْآخَرِ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ، وَلُزُومِهِ حِينَ لَمْ يَعْلَمْ بِمُنَاقَضَةِ صَاحِبِ الْمُوَاضَعَةِ، فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْتَقَهُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ الْبَائِعُ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ صَارَ رَاضِيًا بِلُزُومِ الْعَقْدِ حِينَ أَبْطَلَ الْمُوَاضَعَةَ وَالْمُشْتَرِي صَارَ رَاضِيًا بِذَلِكَ حِينَ أَعْتَقَهُ، فَيَتِمُّ الْبَيْعُ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَرَطَا الْخِيَارَ لَهُمَا، ثُمَّ أَسْقَطَ الْبَائِعُ خِيَارَهُ، وَأَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَالَهُ لَمْ يَجُزْ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْعَقْدِ كَانَ خِيَارُهُ بَاقِيًا، وَبَقَاءُ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ يَمْنَعُ نُفُوذَ عِتْقِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ جَازَ الْبَيْعُ.
وَلَا يَجُوزُ الْعِتْقُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِلْكَهُ، فَلَا يَنْفُذُ، وَإِنْ حَدَثَ لَهُ الْمِلْكُ مِنْ بَعْدُ وَإِنْ بَلَغَ الَّذِي لَمْ يَقُلْ مَقَالَةَ صَاحِبِهِ بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا، فَرَضِيَ بِالْبَيْعِ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ بِنَقْضِ الْمُوَاضَعَةِ صَارَ رَاضِيًا وَالْآخَرُ بِالرِّضَا بَعْدَ مَا بَلَغَهُ مَقَالَةُ صَاحِبِهِ صَارَ رَاضِيًا أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَرْضَ حَتَّى نَقَضَ صَاحِبُهُ الْبَيْعَ، فَإِنْ كَانَا لَمْ يَتَقَابَضَا فَنَقْضُهُ جَائِزٌ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ لِلَّذِي الْمُفْسِدُ مِنْ قِبَلِهِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ ذَلِكَ فَهَذَا قِيَاسُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ، وَالْأَمْرُ إلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ رِضَا الْبَائِعِ قَدْ تَمَّ، وَإِنَّمَا بَقِيَ الْمُفْسِدُ فِي جَانِبِ الْمُشْتَرِي؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُوَاضَعَةَ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخِيَارِ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ، فَالْأَمْرُ إلَى الْبَائِعِ إنْ شَاءَ نَقَضَ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ الْمَبِيعَ، وَلَيْسَ إلَى الْمُشْتَرِي مِنْ النَّقْضِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الرِّضَا قَدْ تَمَّ مِنْهُ.
فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي قَالَا فِي السِّرِّ نُرِيدُ أَنْ نُظْهِرَ بَيْعًا هَزْلًا، وَبَاطِلًا وَنُظْهِرَ أَنَّهُ غَيْرُ هَزْلٍ، وَلَا بَاطِلٍ، وَنُظْهِرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّا إنْ كُنَّا جَعَلْنَا فِي السِّرِّ هَزْلًا، فَقَدْ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ، وَجَعَلْنَاهُ جِدًّا جَائِزًا، وَأَشْهَدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَا عَلَانِيَةً: قَدْ أَبْطَلْنَا كُلَّ هَزْلٍ فِي هَذَا الْبَيْعِ، وَنَحْنُ نَجْعَلُهُ بَيْعًا صَحِيحًا فَتَبَايَعَا عَلَى هَذَا، وَادَّعَى أَحَدُهُمَا جَوَازَ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَإِنَّهُ شَاهِدٌ لِمَنْ يَدِّعِي جَوَازَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا كَانَا قَالَا فِي السِّرِّ مِنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَمَا كَانَ مِنْهُمَا فِي الْعَلَانِيَةِ مِنْ إبْطَالِ كُلِّ هَزْلٍ تَحْقِيقٌ لِمَا كَانَا تَوَاضُعًا عَلَيْهِ فِي السِّرِّ لَا إبْطَالٍ لَهُ، فَلِهَذَا كَانَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بَاطِلًا وَإِنْ كَانَا قَالَا فِي الْعَلَانِيَةِ: إنَّا قُلْنَا فِي السِّرِّ نُرِيدُ أَنْ نَتَبَايَعَ فِي الْعَلَانِيَةِ بَيْعًا بَاطِلًا هَزْلًا، وَقَدْ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ فَقَالَ صَاحِبُهُ: صَدَقْت، ثُمَّ تَبَايَعَا، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا كَانَا قَالَا فِي السِّرِّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْإِبْطَالَ تَحْقِيقٌ مِنْهُمَا لِلْمُضِيِّ عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ إلَّا أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ، وَهُوَ يَسْمَعُ: إنَّا كُنَّا قُلْنَا فِي السِّرِّ أَنَّا نَتَبَايَعُ بَيْعًا هَزْلًا، وَقُلْنَا فِي السِّرِّ أَيْضًا أَنَّا نُظْهِرُ فِي الْعَلَانِيَةِ أَنَّا قَدْ أَبْطَلْنَا كُلَّ قَوْلٍ قُلْنَاهُ فِي السِّرِّ مِنْ هَذَا، وَأَنَّا قَدْ أَبْطَلْنَا جَمِيعَ مَا قُلْنَا فِي السِّرِّ مِنْ هَذَا، وَأَنَّا بِعْنَا بَيْعًا صَحِيحًا، فَإِذَا قَالَا هَذَا، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ يَسْمَعُ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنْ يُبْطِلَهُ؛ لِأَنَّهُمَا وَضَعَا جَمِيعَ مَا كَانَا قَالَا فِي السِّرِّ، ثُمَّ أَبْطَلَا جَمِيعَ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِبْطَالِ لَيْسَ يَمْضِي عَلَى مُوَافَقَةِ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ بَلْ هُوَ إبْطَالٌ لِذَلِكَ، وَتِلْكَ الْمُوَاضَعَةُ مَا كَانَتْ لَازِمَةً فَتَبْطُلُ بِإِبْطَالِهِمَا، فَأَمَّا إذَا، وَضَعَا إبْطَالَ مَا قَالَا فِي الْبَيْعِ خَاصَّةً، وَأَبْطَلَا ذَلِكَ، فَهَذَا مُضِيٌّ مِنْهُمَا عَلَى مُوَافَقَةِ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ لَا مُصَحِّحٌ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَلَوْ أَنَّ لِصًّا أَكْرَهَ رَجُلًا بِوَعِيدِ تَلَفٍ أَوْ سِجْنٍ عَلَى أَنْ يَبِيعَ مَتَاعَ اللِّصِّ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ، وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ مُكْرَهٍ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَ الْإِكْرَاهِ مُنْعَقِدٌ، وَالْمَالِكُ رَاضٍ بِنُفُوذِهِ، وَالْمُشْتَرِي رَاضٍ بِهِ أَيْضًا، وَالثَّمَنُ لِلِّصِّ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا عُهْدَةَ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِالْتِزَامِ الْعُهْدَةِ حِينَ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ وَعُهْدَةُ الْبَيْعِ لَا تَلْزَمُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُهْدَةِ عَلَى الْعَاقِدِ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَى الْمُنْتَفِعِ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الْمَالِكُ كَمَا لَوْ أَمَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، أَوْ صَبِيًّا بِبَيْعِ مَتَاعِهِ، فَبَاعَهُ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَى الْآمِرِ، فَإِذَا طَلَبَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي دَفْعُهُ إلَيْهِ، وَتَكُونُ عُهْدَتُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْعُهْدَةِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الرِّضَا مِنْهُ بِذَلِكَ، فَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، فَأُعْتِقَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ، وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ.
.
وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مَتَاعًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ رَجُلٍ، فَاشْتَرَاهُ كَانَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُكْرَهِ الرَّاضِي بِذَلِكَ كَمَا لَوْ وَكَّلَ صَبِيًّا، أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ لَهُ، فَإِنْ طَلَبَ الْمُشْتَرِي الْمَتَاعَ مِنْ الْبَائِعِ، فَقَبَضَهُ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ فَلَهُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا مِنْهُ بِالْتِزَامِ الْعُهْدَةِ حِينَ طَالَبَهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ طَائِعًا، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ حِينَ طَلَبَهُ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا، وَبَعْدَ مَا لَزِمَتْهُ الْعُهْدَةُ بِرِضَاهُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْبَى كَمَا لَوْ كَانَ رَاضِيًا بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ.
.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ، فَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ حَتَّى أَكْرَهَهُ لِصٌّ عَلَى دَفْعِهِ إلَى الْمُشْتَرِي بِوَعِيدِ تَلَفٍ أَوْ سِجْنٍ، فَدَفَعَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهُ حَتَّى يَأْخُذَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُعْدِمُ الرِّضَا مِنْهُ بِالْقَبْضِ، فَكَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلِأَنَّ إسْقَاطَ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الثَّمَنِ، فَكَمَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ عَنْ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ سُقُوطَ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَهُ، أَوْ وَهَبَهُ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَنْقُضَهُ، وَيُرْجِعَ الْعَبْدَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ تَسْلِيمٍ مِنْهُ، وَتَصَرُّفٍ فِيهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ، وَالْهِبَةَ يَحْتَمِلَانِ النَّقْضَ، فَيُنْتَقَضُ لِقِيَامِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَ الْمُرْتَهِنَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الرَّهْنَ إلَى الرَّاهِنِ، وَيُنَاقِضَهُ الرَّهْنَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَبَاعَهُ الرَّاهِنُ أَوْ، وَهَبَهُ، وَسَلَّمَهُ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَنْقُضَ جَمِيعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّهِ فِي حَبْسِ الرَّهْنِ، وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْحَبْسِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَنْ يُبْطِلَ تَصَرُّفَ الرَّاهِنِ فِيهِ كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ قَبْلَ اسْتِرْدَادِهِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى الْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ قَدْ كَفَرْتُ بِاَللَّهِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ تَبِنْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ اسْتِحْسَانًا، وَقَدْ بَيَّنَّا، ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَقُولَ قَدْ خَطَرَ عَلَى بَالِي أَنْ أَقُولَ لَهُمْ قَدْ كَفَرْت بِاَللَّهِ أُرِيدُ بِهِ الْخَبَرَ عَمَّا مَضَى، فَقُلْت ذَلِكَ أُرِيدُ بِهِ الْخَبَرَ، وَالْكَذِبَ، وَلَمْ أَكُنْ، فَعَلْت ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، وَهَذَا مَخْرَجٌ لَهُ صَحِيحٌ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَلَا يَسَعُهُ إلَّا ذَلِكَ إذَا خَطَرَ بِبَالِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ جِنَايَةٌ صُورَةً مِنْ حَيْثُ تَبْدِيلُ الصِّدْقِ بِاللِّسَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِنَايَةً مَعْنًى لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ وَالْإِخْبَارُ لَا يَكُونُ جِنَايَةً صُورَةً، وَلَا مَعْنًى، فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ إذَا خَطَرَ بِبَالِهِ، وَلَكِنْ لَا يُظْهِرُهُ لِلنَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرَ هَذَا الْمُرَادَ لِلنَّاسِ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ لَمْ تَبِنْ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَقَدْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِنْشَاءِ، وَإِنَّمَا أَتَى بِالْإِقْرَارِ فَكَانَ طَائِعًا فِي هَذَا الْإِقْرَارِ.
وَمَنْ أَقَرَّ بِالْكُفْرِ طَائِعًا بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ فِي الْحُكْمِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ لَا تَبِينُ مِنْهُ، وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ: خَطَرَ عَلَى بَالِي ذَلِكَ ثُمَّ قُلْت قَدْ كَفَرْت بِاَللَّهِ أُرِيدُ بِهِ مَا طَلَبَ مِنِّي الْمُكْرِهُ، وَلَمْ أُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ عَنْ الْمَاضِي، فَهَذَا كَافِرٌ تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا خَطَرَ هَذَا بِبَالِهِ قَدْ يُمَكَّنُ مِنْ الْخُرُوجِ عَمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ بِأَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَالضَّرُورَةُ تَنْعَدِمُ بِهَذَا التَّمَكُّنِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ، وَإِنْشَاءُ الْكُفْرِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَجْرَى كَلِمَةَ الشِّرْكِ طَائِعًا عَلَى قَصْدِ الِاسْتِحْقَاقِ أَوْ لَا عَلَى قَصْدِهِ، وَلَكِنْ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ كَفَرَ، وَفِي هَذَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتُوبَ عَنْ ذَلِكَ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِي شَيْءٌ، وَلَكِنِّي كَفَرْت بِاَللَّهِ كُفْرًا مُسْتَقْبَلًا، وَقَلْبِي مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، فَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ سِوَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَانَتْ الضَّرُورَةُ مُتَحَقِّقَةً وَمَتَى تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ يُرَخَّصُ لَهُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الشِّرْكِ مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ لِهَذَا الصَّلِيبِ، وَمَعْنَاهُ يَسْجُدُ لِهَذَا الصَّلِيبِ، فَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَمْ تَبِنْ امْرَأَتُهُ مِنْهُ، وَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أَنْ يُصَلِّيَ لِلَّهِ، وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ، أَوْ غَيْرُ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ غَيْرُ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ تَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، فَإِنْ تَرَكَ هَذَا بَعْدَ مَا خَطَرَ بِبَالِهِ فَصَلَّى يُرِيدُ الصَّلَاةَ لِلصَّلِيبِ كَمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَفَرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا خَطَرَ بِبَالِهِ قَدْ وَجَدَ الْمَخْرَجَ عَمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ كَافِرًا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ كُفْرٌ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى شَتْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنْ أَجَابَهُمْ إلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَمْ تَبِنْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ خَطَرَ عَلَى بَالِهِ رَجُلٌ مِنْ النَّصَّارِي يُقَال لَهُ مُحَمَّدٌ فَإِنْ شَتَمَ مُحَمَّدًا، وَيُرِيدُ بِهِ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَلَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ وَقَدْ أَظْرَفَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ خَطَرَ بِبَالِهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَال لَهُ مُحَمَّدٌ غَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا قَالَ رَجُلٌ مِنْ النَّصَارَى؛ لِأَنَّ الشَّتْمَ فِي حَقِّ النَّصَارَى أَهْوَنُ مِنْهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ تَرَكَ مَا خَطَرَ بِبَالِهِ، وَشَتَمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَلْبُهُ كَارِهٌ لِذَلِكَ كَانَ كَافِرًا، وَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا خَطَرَ بِبَالِهِ قَدْ، وَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ كَافِرًا، فَإِنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ كَفَرَ، وَكَرَاهَتُهُ بِقَلْبِهِ لَا تَنْفَعُ شَيْئًا.
وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ، فَخَطَر عَلَى بَالِهِ أَنْ يَقُولَ هُوَ حُرٌّ بِهِ يُرِيدُ الْخَبَرَ، وَالْكَذِبَ، وَسِعَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ إذَا كَانَ بَاطِلًا، فَبِالْإِخْبَارِ لَا يَصِيرُ حَقًّا، وَلَكِنْ إنْ ظَهَرَ ذَلِكَ لِلْقَاضِي أَعْتَقَهُ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ بِهِ أَيْ بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى إنْشَاءِ الْعِتْقِ، وَالْإِقْرَارُ غَيْرُ الْإِنْشَاءِ وَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ مَمْلُوكِهِ طَائِعًا يَعْتِقُ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ، وَلَا يَضْمَنُ الْمُكْرِهُ لَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ أَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَقَدْ صَارَ مُغْرِيًا الْمُكْرِهَ عَلَى الضَّمَانِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ بَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَالَ كَيْفَ تُكْرِهُونَنِي عَلَى الْعِتْقِ، وَهُوَ حُرُّ الْأَصْلِ، أَوْ قَدْ أَعْتَقْته أَمْسِ أَعْتَقَهُ الْقَاضِي وَلَمْ يَضْمَنْ لَهُ الْمُكْرِهُ شَيْئًا، وَلَوْ قَالَ خَطَرَ ذَلِكَ عَلَى بَالِي فَقُلْت هُوَ حُرٌّ أُرِيدُ بِهِ عِتْقًا مُسْتَقْبِلًا كَانَ حُرًّا فِي الْقَضَاءِ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَضَمَّنَ الَّذِي أَكْرَهَهُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي خَطَرَ عَلَى بَالِهِ لَوْ فَعَلَهُ عَتَقَ بِهِ فِي الْقَضَاءِ أَيْضًا، فَإِتْلَافُ الْمَالِيَّةِ بِفِعْلِ الْمُكْرِهِ فِي الْقَضَاءِ مُتَحَقِّقٌ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ مَا خَطَرَ بِبَالِهِ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ كَانَ الْإِتْلَافُ فِي الْقَضَاءِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، ثُمَّ قَدْ أَنْشَأَ عِتْقًا مُسْتَقْبَلًا، وَذَلِكَ يَجْعَلُ الْمَمْلُوكَ حُرًّا فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ مُكْرَهًا، أَوْلَمَ يَكُنْ مُكْرَهًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ أَتَى بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَانَ حُرًّا فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُضَمِّنُ الْمُكْرِهَ قِيمَتَهُ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ، فَإِنْ قَالَ الْمُكْرِهُ: قَدْ خَطَرَ عَلَى بَالِهِ الْخَبَرُ بِالْكَذِبِ، فَقَالَ: هُوَ حُرٌّ يُرِيدُ الْخَبَرَ الْكَذِبَ، فَأَنَا أُرِيدُ يَمِينَهُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ كَانَ مُكْرِهًا إيَّاهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ بَعْدَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَقَالَ: هِيَ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: أَرَدْت الْخَبَرَ بِالْكَذِبِ أَوْ أَنَّهَا طَالِقٌ عَنْ وَثَاقٍ، أَوْ قَيْدٍ، وَسِعَهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ، فَهِيَ بَائِنٌ مِنْهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ كَانَ طَائِعًا فِيمَا قَالَهُ بِنَاءً عَلَى قَصْدِهِ، وَإِنْ كَانَ قَالَ: قَدْ كَانَ خَطَرَ بِبَالِي أَنْ أَقُولَ هِيَ طَالِقٌ أُرِيدُ الْخَبَرَ، أَوْ إنَّهَا طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ، أَوْ قَيْدٍ، فَلَمْ أَقُلْ ذَلِكَ، وَقُلْت هِيَ طَالِقٌ أُرِيد طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا كَانَتْ طَالِقًا فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مُضَافٌ إلَى الْمُكْرِهِ فِي الْقَضَاءِ سَوَاءٌ قَصَدَ مَا خَطَرَ بِبَالِهِ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ فَهُوَ، وَمَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ.
وَإِنْ قَالَ الْمُكْرَهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ يُرِيدُ الْخَبَرَ بِالْكَذِبِ، أَوْ طَلَاقًا مِنْ قَيْدٍ، فَطَلَبَ يَمِينَهُ عَلَى ذَلِكَ اسْتَحْلَفَ لَهُ عَلَيْهِ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ فَإِنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ.
(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَلَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً، وَلَمْ يَدْخُلُ بِهَا، فَقَالَ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَمَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، فَلَا إشْكَالَ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ، فَلِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالثَّلَاثِ لِانْتِفَاءِ صِفَةِ الْحِلِّ عَنْ الْمَحِلِّ، وَأَمَّا بِوَاحِدَةٍ، فَتَحْصُلُ إزَالَةُ الْمِلْكِ مَعَ بَقَاءِ الْحِلِّ فِي الْمَحَلِّ، وَهُمَا غَيْرَانِ، فَكَانَ هُوَ طَائِعًا فِيمَا أَتَى بِهِ، وَلِأَنَّ مَا زَادَ مِمَّا لَمْ يُكْرِهُوهُ عَلَيْهِ يُبَيِّنُهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ زَادَ اثْنَتَيْنِ، وَهُمَا كَافِيَتَانِ فِي الْبَيْنُونَةِ وَتَأَكُّدِ نِصْفُ الصَّدَاقِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ، أَوْ قِيلَ: لَهُ طَلِّقْهَا اثْنَتَيْنِ، وَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَلَوْ قَالَ طَلِّقْهَا ثَلَاثًا، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ الَّذِي غَرِمَ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ بَعْضَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّلَفُ الْحَاصِلُ بِهِ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَأْمُورَ بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ إذَا، أَوْقَعَ الْوَاحِدَةَ تَقَعُ، وَالْمَأْمُورُ بِإِيقَاعِ الْوَاحِدَةِ إذَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَضْرِبَ هَذَا بِهَذِهِ الْحَدِيدَةِ فَيَقْطَعَ يَدَهُ، فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ ثَنَّى، فَقَطَعَ رِجْلَهُ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ، فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَعَلَيْهِمَا الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ صَارَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَكَأَنَّ الْمُكْرِهَ، فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ فِي الْفِعْلِ الثَّانِي طَائِعٌ، وَالْقِصَاصُ يَجِبُ عَلَى الْمُثَنَّى بِقَتْلِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ كَانَ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَضْرِبَهُ بِعَصًا فَفَعَلَ، ثُمَّ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً أُخْرَى بِعَصًا بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، أَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، فَضَرَبَهُ مِائَةً، وَعَشَرَةً، فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ فِي الْفِعْلِ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّ الْمُكْرِهَ، فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ.
وَلَوْ قَتَلَ رَجُلَانِ رَجُلًا بِالْعَصَا، وَالسَّوْطِ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ.
فَإِنْ كَانَ قَطَعَ يَدَهُ بِالسَّيْفِ مُكْرَهًا، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ خَمْسِينَ سَوْطًا، فَمَاتَ، فَنِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْآمِرِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ، فَكَأَنَّ الْمُكْرِهَ، فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْمَحَلِّ الْفِعْلُ الْمُوجِبُ لِلْقَوَدِ، وَغَيْرُ الْمُوجِبِ، فَسَقَطَ الْقَوَدُ بِالشُّبْهَةِ، وَيَكُونُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْآمِرِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ مَحْضٌ وَنِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ الضَّرْبُ بِالسَّوْطِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَطَأِ وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ كَانَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ لَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةً، وَلَا يُوجِبُ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرِهِ.
وَلَوْ أَنَّ لِصًّا أَكْرَهَ رَجُلًا بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ نِصْفَ عَبْدِهِ، فَأَعْتَقَهُ كُلَّهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ وَمَا أَتَى بِهِ غَيْرُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَلَا يَصِيرُ الْإِتْلَافُ بِهِ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ عَلَى أَصْلِهِ لَوْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُعْتِقَ نِصْفَ عَبْدِهِ، فَأَعْتَقَهُ كُلَّهُ كَانَ بَاطِلًا، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْمُكْرِهُ ضَامِنٌ لَقِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْعِتْقُ لَا يَتَجَزَّأُ، فَالْإِكْرَاهُ عَلَى إعْتَاقِ النِّصْفِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى إعْتَاقِ الْكُلِّ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ، فَأَعْتَقَ نِصْفَهُ، فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ النِّصْفِ كَإِعْتَاقِ الْكُلِّ، فَأَمَّا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَالْعِتْقُ يَتَجَزَّأُ فَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ طَائِعًا، وَيَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُكْرِهِ بِنِصْفِ قِيمَتهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِبَعْضِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَكَانَ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ ثَابِتًا فِيمَا أَتَى بِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَأْمُورَ بِإِعْتَاقِ الْعَبْدِ لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ نَفَذَ، فَإِنْ نَوَى مَا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِهِ أَيْضًا عَلَى الْمُكْرِهِ، وَيَرْجِعَ الْمُكْرِهُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ، فَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ صَارَ كَالْمُعْتَقِ لِذَلِكَ النِّصْفِ، وَإِعْتَاقُ النِّصْفِ إفْسَادٌ لِمِلْكِهِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَذَّر عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِيهِ، فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ قِيمَةَ النِّصْفِ الْآخَرِ، ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ النِّصْفَ بِالضَّمَانِ، فَيَسْتَسْعِيه فِيهِ، وَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا النِّصْفَ عَتَقَ عَلَى مِلْكِ الْمُكْرَهِ بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ إلَيْهِ قَالُوا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ مُوسِرًا عَلَى قِيَاسِ ضَمَانِ الْمُعْتِقِ.
وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا أُكْرِهَتْ امْرَأَتُهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ أَوْ حَبْسٍ حَتَّى تَسْأَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَسَأَلَتْهُ ذَلِكَ، فَطَلَّقَهَا كَمَا سَأَلَتْ، ثُمَّ مَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّ سُؤَالَهَا مَعَ الْإِكْرَاهِ بَاطِلٌ، فَإِنَّ تَأْثِيرَ سُؤَالِهَا فِي الرِّضَا مِنْهَا بِالْفُرْقَةِ، وَإِسْقَاطِ حَقِّهَا مِنْ الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلَوْ سَأَلَتْهُ تَطْلِيقَتَيْنِ بَائِنَتَيْنِ فَفَعَلَ، ثُمَّ مَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ تَرِثْهُ؛ لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ غَيْرَ مَا أُكْرِهَتْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَا زَادَتْ مِنْ عِنْدِهَا كَافٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي الْمِيرَاثِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ سَأَلَتْ زَوْجَهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ بَائِنَتَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ، وَهِيَ فِي الْعِدَّة لَمْ تَرِثْهُ لِلْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ أَشَرْنَا إلَيْهِمَا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِ رَجُلٍ يُطَلِّقُهَا تَطْلِيقَةً إذَا شَاءَ، وَأُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ جَعَلَ فِي يَدِ ذَلِكَ الرَّجُلِ تَطْلِيقَةً أُخْرَى فَفَعَلَ فَطَلَّقَهَا الرَّجُلُ التَّطْلِيقَتَيْنِ جَمِيعًا لَمْ يَرْجِعْ الزَّوْجُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ مَا جَعَلَهُ فِي هَذِهِ طَائِعًا كَافٍ لِتَقْرِيرِ الصَّدَاقِ بِهِ، وَلَا رُجُوعَ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي جَعَلَهَا الزَّوْجُ إلَيْهِ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي أُكْرِهَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا دُونَ الْأُخْرَى رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ تَقَرُّرَ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَيْهِ كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً إذَا شِئْت، ثُمَّ أُكْرِهَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ قَبْلَهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً إذَا شِئْت، فَقَالَ لَهَا ذَلِكَ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا التَّطْلِيقَتَيْنِ جَمِيعًا غَرِمَ لَهَا الزَّوْجُ نِصْفَ الْمَهْرِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي أَكْرَهَهُ عَلَيْهَا خَاصَّةً، وَثَبَتَ ذَلِكَ رَجَعَ الزَّوْجُ بِنِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى الْمُكْرِهِ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُسَلِّطَةُ، فَأَكْرَهْته عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَفَعَلَ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مَنْسُوبٌ إلَيْهَا لِلْإِلْجَاءِ، فَكَأَنَّ الْفُرْقَةَ، وَقَعَتْ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَوْ كَانَتْ أَكْرَهَتْهُ بِالْحَبْسِ أَخَذَتْهُ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهَا بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِكْرَاهِ، فَبَقِيَتْ الْفُرْقَةُ مَنْسُوبَةً إلَى الزَّوْجِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ لَهَا.
وَلَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ الزَّوْجَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا كُلُّ وَاحِدَةٍ بِأَلْفٍ، فَقَبِلَتْ جَمِيعَ ذَلِكَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا، وَوَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَلَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِهَا لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا بِسَبَبٍ مُضَافٍ إلَيْهَا، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الْمَهْرِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ الزَّوْجُ مِنْ عِنْدِهِ طَائِعًا كَافٍ فِي تَقْرِيرِ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً بِأَلْفٍ، فَفَعَلَ وَقَبِلَتْ ذَلِكَ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى نِصْفِ مَهْرِهَا، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ أَدَّى الزَّوْجُ إلَيْهَا الْفَضْلَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ إنْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلَا شَيْءَ لَهَا عَلَيْهِ، وَلِلزَّوْجِ عَلَيْهِ الْأَلْفُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الطَّلَاقِ إذْ الْخُلْعُ يُوجِبُ بَرَاءَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ، وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ قَوْلَهُمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَفِيهِ شُبْهَةُ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِخِلَافِ لَفْظِ الْخُلْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الطَّلَاقِ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا قَدْ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ بَدَلَ الطَّلَاقِ، وَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ مَهْرِهَا فَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ، وَيُؤَدِّي الزَّوْجُ إلَيْهَا الْفَضْلَ، فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ إنْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ؛ لِأَنَّهُ قَرَّرَ عَلَيْهِ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.
وَلَوْ عَتَقَتْ أَمَةٌ لَهَا زَوْجٌ حُرٌّ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَأُكْرِهَتْ بِوَعِيدِ تَلَفٍ أَوْ حَبْسٍ عَلَى أَنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي مَجْلِسِهَا بَطَلَ الصَّدَاقُ كُلُّهُ عَنْ زَوْجِهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَكْرَهَهَا عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا، فَالشَّرْعُ مَلَّكَهَا أَمْرَ نَفْسِهَا حِينَ عَتَقَتْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْإِكْرَاهِ إبْطَالُ شَيْءٍ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ لِلْمَوْلَى دُونَهَا، وَلَوْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ بِمُقَابَلَةِ الْمَهْرِ عَادَ إلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ الصَّدَاقُ لِمَوْلَاهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَلَمْ يَرْجِعْ الزَّوْجُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا أَكْرَهَ الزَّوْجَ عَلَى شَيْءٍ، وَلِأَنَّ الصَّدَاقَ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ كُلُّهُ بِالدُّخُولِ، وَإِنَّمَا أَتْلَفَ الْمُكْرِهُ مِلْكَ الْبُضْعِ عَلَى الزَّوْجِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَقَوَّمُ بِالْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْبُضْعِ عِنْدِ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.